كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إنها رحلة طويلة طويلة.. ولكن السورة تقطعها مرحلة مرحلة، وتقف منها عند معظم المعالم البارزة، في الطريق المرسوم. ملامحه واضحة، ومعالمه قائمة، ومبدؤه معلوم، ونهايته مرسومة.. والبشرية تخطو فيه بجموعها الحاشدة. ثم تقطعه راجعة.. إلى حيث بدأت رحلتها في الملأ الأعلى..
لقد انطلقت هذه البشرية من نقطة البدء، ممثلة في شخصين اثنين.. آدم وزوجه.. أبوي البشر.. وانطلق معهما الشيطان. مأذونا من الله في غوايتهما وغواية ذراريهما ومأخوذًا عليهما عهد الله وعلى ذراريهما كذلك. ومبتلي كلاهما وذراريهما معهما بقدر من الاختيار؛ ليأخذوا عهد الله بقوة أو ليركنوا إلى الشيطان عدوهم وعدو أبويهم الذي أخرجهما من الجنة؛ وليسمعوا الآيات التي يحملها إليهم ذلك الرهط الكريم من الرسل على مدار التاريخ، أو يسمعوا غواية الشيطان الذي لا يني يجلب عليهم بخيله ورجله، ويأتيهم عن أيمانهم وعن شمائلهم!
انطلقت البشرية من هناك.. من عند ربها سبحانه.. انطلقت إلى الأرض. تعمل وتسعى، وتكد وتشقى، وتصلح وتفسد، وتعمر وتخرب، وتتنافس وتتقاتل، وتكدح الكدح الذي لا ينجو منه شقي ولا سعيد.. ثم ها هي ذي تؤوب! ها هي ذي راجعة إلى ربها الذي أطلقها في هذا المجال.. ها هي ذي تحمل ما كسبت طوال الرحلة المرسومة.. من ورد وشوك. ومن غال ورخيص، ومن ثمين وزهيد، ومن خير وشر، ومن حسنات وسيئات. ها هي ذي تعود في أصيل اليوم.. فقد انطلقت في مطلعه!.. وها نحن أولاء نلمحها من خلال السياق في السورة موقورة الظهور بالأحمال- أيا كانت هذه الأحمال- ها هي ذي عائدة إلى ربها بما معها. تظلع في الطريق، وقد بلغ منها الجهد وأضناها المسير. حتى إذا عادت إلى نقطة المنطلق وضع كل منها حمله أمام الميزان، ووقف يرتقب في خشية ووجل.. إن كل فرد قد عاد بحصيلته فردًا.. وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى! وكل فرد على حدة يلاقي حسابه، ويلقى جزاءه.. ويظل سياق السورة يتابع أفواج البشرية، فوجًا فوجًا. إلى جنة أو إلى نار. حتى تغلق الأبواب التي فتحت لاستقبال المغتربين العائدين. فقد كانوا هنالك في هذه الأرض مغتربين: {كمابدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون}..
وبين الغدو والرواح تعرض معارك الحق والباطل. معارك الهدى والضلال. معارك الرهط الكريم من الرسل والموكب الكريم من المؤمنين، مع الملأ المستكبرين والأتباع المستخفين. ويعرض الصراع المتكرر؛ والمصائر المتشابهة. وتتجلي صحائف الإيمان في إشراقها ووضاءتها؛ وصحائف الضلال في انطماسها وعتامتها. وتعرض مصارع المكذبين بين الحين والحين. حيث يقف السياق عليها للتذكير والتحذير.. وهذه الوقفات تجيء وفق نظام ملحوظ في سياق السورة. فبعد كل مرحلة هامة يبدو كما لو كان السياق يتوقف عندها ليقول كلمة! كلمة تعقيب. للإنذار والتذكير.. ثم يمضي.
إنها قصة البشرية بجملتها في رحلتها ذهابًا وإيابًا. تتمثل فيها حركة هذه العقيدة في تاريخ البشرية، ونتائج هذه الحركة في مداها المتطاول.. حتى تنتهي إلى غايتها الأخيرة في نقطة المنطلق الأولى.. وهي وجهة أخرى في عرض موضوع العقيدة غير وجهة سورة الأنعام- وإن تلاقت السورتان أحيانا في عرض مشاهد المكذبين وعرض مشاهد القيامة ومشاهد الوجود- وهو مجال آخر للعرض غير مجال الأنعام، واضح التميز، مختلف الحدود.
ذلك إلى طبيعة التعبير في السورتين. فالتعبير في كل سورة يناسب منهجها في عرض الموضوع. وبينما يمضي السياق في الأنعام في موجات متدافعة؛ وبينما تبلغ المشاهد دائما درجة اللألاء والتوهج والالتماع، وتبلغ الإيقاعات درجة الرنين والسرعة القاصفة والاندفاع.. إذا السياق في الأعراف يمضي هادئ الخطو، سهل الإيقاع، تقريري الأسلوب. وكأنما هو الوصف المصاحب للقافلة في سيرها المديد، خطوة خطوة، ومرحلة مرحلة، حتى تؤوب! وقد يشتد الإيقاع أحيانًا في مواقف التعقيب؛ ولكنه سرعان ما يعود إلى الخطو الوئيد الرتيب!
وهما- بعد- سورتان مكيتان من القرآن..!!!
ولعله يحسن هنا أن نستعرض منهج السورة في معالجة موضوع العقيدة في صورة حركة لهذه العقيدة في تيار التاريخ البشري..
إن السورة لا تعرض قصة هذه العقيدة في التاريخ البشري، ولا تعرض رحلة البشرية منذ نشأتها الأولى إلى عودتها الأخيرة.. مجرد عرض في أسلوب قصصي.. إنما هي تعرضها في صورة معركة مع الجاهلية.. ومن ثم فإنها تعرضها في مشاهد ومواقف؛ وتواجه بهذه المشاهد والمواقف ناسًا أحياء كانوا يواجهون هذا القرآن؛ فيواجههم هذا القرآن بتلك القصة الطويلة؛ ويخاطبهم بما فيها من عبر؛ مذكرا ومنذرا؛ ويخوض معهم معركة حقيقية حية.. ومن ثم تجيء التعقيبات في السياق عقب كل مرحلة أساسية؛ موجهة لأولئك الأحياء الذين كان القرآن يخوض معهم المعركة؛ وموجهة كذلك إلى أمثالهم ممن يتخذون موقفهم على مدار التاريخ.
إن القرآن لا يقص قصة إلا ليواجه بها حالة. ولا يقرر حقيقة إلا ليغير بها باطلا.. إنه يتحرك حركة واقعية حية في وسط واقعي حي. إنه لا يقرر حقائقه للنظر المجرد، ولا يقص قصصه لمجرد المتاع الفني!
ويركز السياق على التذكير والإنذار في وقفاته للتعقيب. كما يركز على نقطة الانطلاق، وعلى نقطة المآب. وبينهما يمر بقصص قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب. ثم يركز تركيزًا شديدًا على قصة قوم موسى.
وفي هذه التقدمة للسورة لا نملك إلا أن نعرض نماذج مجملة لمواضع التركيز في السورة:
تبدأ السورة على هذا النحو:
آلمص. كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه، لتنذر به، وذكرى للمؤمنين. اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء. قليلا ما تذكرون..
فهي منذ اللحظة الأولى خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخطاب لقومه الذين يجاهدهم بهذا القرآن.. وكل ما يجيء في السورة بعد ذلك من قصص، ومن وصف لرحلة البشرية الطويلة، وعودتها من الرحلة المرسومة، وكل ما يعرض من مشاهد في صفحة الكون وفي يوم القيامة.. إنما هو خطاب غير مباشر،- وأحيانا مباشر- للنبي صلى الله عليه وسلم وقومه للإنذار والتذكير، كما يشير هذا المطلع القصير.
وقول الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: {كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه}.
يصور حالة واقعية لا يمكن أن يدركها اليوم إلا الذي يعيش في جاهلية وهو يدعو إلى الإسلام؛ ويعلم أنه إنما يستهدف أمرًا هائلًا ثقيلًا، دونه صعاب جسام.. يستهدف إنشاء عقيدة وتصور، وقيم وموازين، وأوضاع وأحوال مغايرة تمام المغايرة لما هو كائن في دنيا الناس. ويجد من رواسب الجاهلية في النفوس، ومن تصورات الجاهلية في العقول، ومن قيم الجاهلية في الحياة، ومن ضغوطها في الأوضاع والأعصاب، ما يحس معه أن كلمة الحقيقة التي يحملها، غريبة على البيئة، ثقيلة على النفوس؛ مستنكرة في القلوب.. كلمة ذات تكاليف بقدر ما تعنيه من الانقلاب الكامل لكل ما يعهده الناس في جاهليتهم من التصورات والأفكار، والقيم والموازين، والشرائع والقوانين، والعادات والتقاليد، والأوضاع والارتباطات.. ومن ثم يجد في صدره هذا الحرج من مواجهة الناس بذلك الحق الثقيل، الحرج الذي يدعو الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم ألا يكون في صدره من هذا الكتاب شيء منه؛ وأن يمضي به ينذر ويذكر؛ ولا يحفل ما تواجهه كلمة الحق من دهشة واستنكار، ومن مقاومة كذلك وحرب وعناء..
ولأن الأمر كذلك من الثقل ومن الغرابة ومن النفرة ومن المقاومة لهذا التغيير الكامل الشامل الذي تستهدفه هذه العقيدة في حياة الناس وتصوراتهم، فإن السياق يباكر القوم بالتهديد القاصم، ويذكرهم بمصائر المكذبين، ويعرض عليهم مصارع الغابرين.. جملة قبل أن يأخذ في القصص المفصل عنهم في مواضعه من السياق:
وكم من قرية أهلكناها، فجاءها بأسنا بياتا أوهم قائلون. فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا: إنا كنا ظالمين. فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين. فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين. والوزن يومئذ الحق، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون. ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون..
وبعد هذه المقدمة تبدأ القصة.. تبدأ بالحديث عن التمكين للجنس البشري في الأرض.. وذلك بما أودع الله هذا الكون من خصائص وموافقات تسمح بحياة هذا الجنس وتمكينه في الأرض. وبما أودع الله هذا الجنس من خصائص وموافقات متوافقة مع الكون؛ ومن قدرة على التعرف إلى نواميسه واستخدامها؛والانتفاع بطاقاته ومقدراته ومدخراته وأقواته:
{ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون}.
وليس هذا إلا التمهيد لعرض قصة النشأة الأولى، وتصوير نقطة الانطلاق التي بدأت منها البشرية رحلتها المرسومة. والسياق يركز في هذه السورة على هذه النقطة؛ ويعرض قصة النشأة، ويتخذها كذلك نقطة تعقيب للإنذار والتذكير، المستمدين مما في مشاهدها وأحداثها من عظات موحية، ومؤثرات عميقة:
ولقد خلقناكم ثم صورنا كم، ثم قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين. قال: ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال: أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين. قال: فاهبط منها، فما يكون لك أن تتكبر فيها، فاخرج إنك من الصاغرين. قال: أنظرني إلى يوم يبعثون. قال: إنك من المنظرين. قال: فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ولا تجد أكثرهم شاكرين. قال: اخرج منها مذؤومًا مدحورًا، لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين.. ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، فكلا من حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين.. فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما، وقال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما: إني لكما لمن الناصحين. فدلاهما بغرور، فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وناداهما ربهما: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة، وأقل لكما: إن الشيطان لكما عدو مبين قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. قال: اهبطوا بعضكم لبعض عدو؛ ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين. قال: فيها تحيون، وفيها تموتون، ومنها تخرجون..
وبهذا المشهد في نقطة الانطلاق يتحدد مصير الرحلة كلها، ومصائر المرتحلين جميعا.. وتلوح طلائع المعركة الكبرى التي لا تهدأ لحظة طوال الرحلة، بين هذا العدو الجاهر بالعداوة، وبني آدم جميعا. كما تلوح نقط الضعف في الكائن الإنساني جملة، ومنافذ الشيطان إليه منها.
ومن ثم يتخذ السياق من المشهد مناسبة للتعقيب الطويل، بالإنذار والتحذير.. تحذير بني آدم مما جرى لأبويهم من هذا العدو العنيد.. وفي ظل هذا المشهد الذي يقف فيه الشيطان وجها لوجه مع آدم وزوجه أبوي البشر. وفي ظل النتيجة التي انتهى إليها الشوط الأول في المعركة يتوجه السياق بالخطاب إلى بني آدم، يذكرهم وينذرهم، ويحذرهم مصيرًا كهذا المصير:
يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سوآتكم وريشًا، ولباس التقوى ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون.. يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة، ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما، إنه يراكم هو وقبيلة من حيث لا ترونهم، إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون..
{يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}..